lundi 10 janvier 2011

قراءة في شعر نزار قباني

بيروت الحبيبة:

يثني الشاعر ثناء خاصاً على بيروت سواء في حواراته أم في شعره، ففي أحد حواراته يقول عن بيروت (56): إنه (الشاعر) كان في كل الأمكنة، ولم يكن في أي مكان وأن كل مدن العالم بالنسبة إليه كانت صالات ترانزيت وفنادق صالحة للمبيت ليلة واحدة أو ليلتين على الأكثر، ولكنه بعد بيروت لم يستطع أن ينام في أي مكان، ولا أن يكتب في أي مكان، فكل العالم بالنسبة إليه فندق من الدرجة الثانية وبيروت هي البيت، وأن كل العالم بلا جدران وبيروت هي السقف، وكل العالم صحراء وبيروت هي الماء وكل الجغرافيات تفرعات وهوامش  وبيروت هي الأصل، وأنه من خلال تعامله الشعري مع عشرات المدن اكتشف أن بيروت نسخة لا تتكرر في تاريخ الشعر، وأن الشاعر  الذي لا يتخرج من بيروت أو لا يتشكل في بيروت أو لا يعتمد في بيروت أو لا تنشر أشعاره فيها يبقى شاعراً غير مكرس، ولا يصل إلى مرتبة النجومية وإنما يبقى في قائمة شعراء الكوميديا. إذ إن هناك قائمة طويلة من الشعراء أطلقتهم بيروت كالنيازك في سماء الوطن العربي مثل (السياب ونازك الملائكة، والبياتي ومحمود درويش وغيرهم)..
والسؤال هنا لماذا خص بيروت بعد دمشق دون سواها من المدن الأخرى بهذا الثناء وهذا الحب؟ ويجيبنا نزار (57)، إن المدن نساء، وأنه لو اجتمع كل خبراء العشق وكل خبراء الشعر على مائدة مستديرة لما استطاعوا أن يعرفوا لماذا تقدر امرأة أن تفجر بنا الكرة الأرضية وتضرم النار في تاريخنا وجهازنا العصبي في حين لا تستطيع امرأة ثانية أن تضرم عود كبريت. وبيروت ذكية جداً وشاطرة جداً وذات خبرة عالية في استدراج الشعراء إلى حبها والاحتفاظ بهم، وحين تحاول أن تقترب منها تقول لك: "بعدين، بعدين، أكمل قصيدتك الآن وعندما تفرغ من كتابة قصيدتك سأحبك". وعندما تتركها خمس دقائق وتذهب لتجلس مع القصيدة، تقول لك: "ولو يا أستاذ، هل هناك رجل يدير ظهره لامرأة جميلة، ويغازل ورقة؟ ألا تعرف أن هذا وقت الحب لا وقت الشعر؟
وعلى الرغم من محاولة نزار تلخيص الأسباب التي جعلته يخص بيروت بعد دمشق بهذا الحب متمثلة في كونها ذكية جداً، وشاطرة جداً، وذات خبرة عالية في استدراج الشعراء إلى حبها والاحتفاظ بهم،  إلا أنه سرعان ما يؤكد جهله بالأسباب الحقيقية التي جعلته يهيم بعشقها إلى هذا الحد، وأنه لا يدري ماذا فعلت  به هذه المدينة، ولا ماذا وضعت في فنجان قهوته، ولا أي مادة كيماوية حقنته بها فغيرت فصيلة دمه، ولا يدري كيف دخلها على هيئة إنسان وخرج منها على هيئة كتاب، ولا يدري كيف دخلها عازباً وخرج منها يجر آلاف القصائد.
بيروت، إذن، عشيقة الشاعر التي لا تضاهيها عشيقة أخرى، عشيقة متميزة، متفردة، لا يمكن أن تتكرر، لم يعثر عليها قبل أن يلتقي بها، ولن يعثر عليها مستقبلاً لأنَّه جرب كل نساء (مدن) العالم، ولم يفعل ذلك إلا لأنّه كان يبحث عنها، وقد ذكرها الشاعر في قصائد غزلية كثيرة وخصها بقصائد كاملة كانت بمثابة رسائل حب وهي: بريد بيروت(58)، يا ست الدنيا يا بيروت، سبع رسائل ضائعة في بريد بيروت، بيروت محظيتكم، بيروت حبيبتي، إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار، بيروت تحترق وأحبك(59)، أربع رسائل ساذجة إلى بيروت، ومحاولة تشكيلية لرسم بيروت(60)، وقد أكثر الحديث  عن بيروت في قصائد غزلية حيث تندمج المدينة مع المرأة في أغلب الأحيان،  من ذلك هذا المقطع من "قصيدة الحزن":
علمني حبك كيف الليل يضخم أحزان الغرباء
علمني كيف أرى بيروت
امرأة طاغية الإغراء
امرأة تلبس كل مساء
أجمل ما تملك من أزياء
وترش العطر على نهديها للبحارة والأمراء
علمني كيف ينام الحزن
كغلام مقطوع القدمين
في طرق (الروشة) و(الحمراء)(61)
ويتكرر الموقف نفسه في قصيدة "مع بيروتية" حين تغوص بيروت في عيني تلك الجالسة معه في مطعم كلؤلؤة حتى تغيب تماماً رملاً وسماءً وبيوتاً.. وحين يبحث الشاعر عن بيروت يجدها ماثلة أمامه امرأة فاتنة:
بيروت. أفتش عن بيروت
على أهدابك والشفتين..
فأراها.. طيراً بحريا
أراها.. عقداً ماسيا
أراها.. امرأة فاتنة(62)
ولأن بيروت في قصيدة "بيروت والحب والمطر في ديوانه أشعار خارجة على القانون ليست كباقي المدن فإن أمطارها أمطار خاصة، فحين تمطر في بيروت تستيقظ فيه الحاجة إلى الحنان. وليس للعاشقين حاجة للبحث عن المكان المناسب لأن الحب في بيروت موجود في كل مكان.
وقد سئل مرة عن هذه المدينة فكان جوابه: إنه على الرغم من كل ما كتبه عن بيروت، يشعر أنه ما زال مقصراً معها وأن، علاقته ببيروت علاقة عشق كبير،. وأنه على الرغم مما يقال عنه، بأنه يجمع المدن كما يجمع النساء فإنه شاعر أحادي أحب مدينة واحدة.. وامرأة واحدة. وأن بيروت بالنسبة إليه هي الجغرافيا كلها. جغرافية الشعر وجغرافية الأرض وأنه حين يغادرها إلى مدن أخرى سرعان ما يرحل من هذه المدن كلها ليعود إلى حبيبته بيروت، فيجدها تلبس الكيمونو الحريري الوردي وتنتظره على العشاء. وهو سرعان ما يغادر "الشانزيليزي" ليعود إلى (زاوية بيته في حي مار الياس). وسرعان ما يترك "الكونكورد"  ليعود إلى (رياض الصلح). ويترك "برج إيفل" ليعود إلى (برج أبي حيدر). ثم يتساءل هل هذا معقول؟.. هل هذا منطقي؟ ويجيب طبعاً عندما يكون المرء عاشقاً حتى نخاعه الشوكي يصبح اللامعقول، واللامنطقي منطقياً.
وأنَّه لا يقيس المدن بطولها وعرضها وفخامة فنادقها ومطاراتها. وإنما يقيسها بقدرتها على تحريضه شعرياً.
ولأن بيروت تبلله بأمطار الشعر، وتشعل به شهوة الكتابة، فهي عنده أعظم من نيويورك وأهم من طوكيو.
وأنه لا يتذكر أن بيروت ضايقته في يوم من الأيام. ولا يتذكر أنها أغضبته. أو أنها استجوبته كما يفعل أكثر النساء.
وأنها لم تتلصص عليه يوماً من ثقب الباب، ولم تفتش جيوبه وأوراقه، ولم تطبق عليه الأساليب المخابراتية. كانت تضع ركوة القهوة وتقول له عندما تحتاج إلي فنادني.
وأن معجزة بيروت هي، أنها مدينة ترفض موتها، ففي ذروة اشتعال الحرب الأهلية، كانت بيروت تطبع خمسين كتاباً جديداً كل يوم، في حين لا تستطيع باريس أو لندن أو نيويورك في زمن السلام أن تدخل هذه المغامرة الثقافية الكبرى.
ومن ثم فإنه لا في لندن يستطيع أن يكون (شكسبير) ولا في باريس يستطيع أن يكون (بول فاليري). أو (شارل بودلير)، أما في بيروت فيستطيع أن يبقى نزار قباني(63).
فلماذا هذا الحنين الجارف إليها؟ فإلى جانب كونها مدينة ثقافية حقق ذاته من خلالها فهي أيضاً تمثيل رمزي تتماهى مع المرأة المحبوبة: "كلما رأتني بيروت من نافذة البيت عائداً ضحكت ضحكة ساخرة. وقالت: أنتم الرجال عقلكم صغير. تقيمون الدنيا وتقعدونها على رأس امرأة تعشقونها. ثم تعودون إلى صدرها نادمين. مستغفرين.(.) كنت أعود إلى بيروت لأن قطع علاقتي معها يعني قطع جميع شراييني فعندما تصبح امرأة أو مدينة جزء من دورتنا الدموية، ومن قهوتنا الصباحية وجزء من حركة الدقائق والثواني، فإن هجر هذه المدينة ـ المرأة يساوي هجر الحياة ويعادل الانتحار.
إن بيروت أعطتني جرعة من الحرية عجزت أي مدينة أخرى أن تعطيني إياها. لذلك أجد صعوبة كبرى في التفاهم مع المدن الأخرى. إن إمكانية الكتابة عندي صارت مرتبطة ببيروت، وعندما أتركها أنسى القراءة والكتابة() إن (برج أبي حيدر)، و(برج البراجنة) و(برج المر) في بيروت تحرضني على الكتابة أكثر مما يحرضني (برج إيفل) في العاصمة الفرنسية الجميلة"(64)
وعلى الرغم من أن مدناً كثيرة أعطته أشعاراً غزيرة إلا أنه يحس وكأن بيروت هي المدينة الوحيدة التي تستطيع أن توقظ فيه شهوة الكتابة فلا شعر بغير  بيروت ولا كتاب شعر يمكن أن يصدر من غير بيروت وأن الشعر جزء من صادراتها كما التفاح والكرز والبرتقال. وأنه لا يعتقد أن بلداً في العالم يباهي بأن الشعر هو ثروته القومية إلا لبنان.
أما بالنسبة للعشق الذي يربطه ببيروت فهو عشق يدخل في باب الخرافات، وهو عشق أكبر من أن يقال بكل اللغات التي يعرفها لأن الكلمات في الحب تقتل الحب، ولأن الحروف تموت حين تقال شأنها شأن الحب الذي لا يعرف وهذا العشق الذي يربطه بهذه المدينة كالعشق الذي يربطه بالمرأة تماماً. وهي بمثابة الحب الأول في حياته، وأن الانفصال عنها يشبه انفصال الطفل عن ثدي أمه وعن حليبها الطبيعي: "مشكلتنا أن بيروت كانت حبنا الأول. وعندما رحلنا عن بيروت لم نجد بين نساء العالم امرأة واحدة تستحق أن تكون وصيفة أو خادمة بيروت(65).
هذا هو المأزق الخطير الذي وقعنا فيه جميعاً. مأزق الطفل الذي فصلوه عن ثدي أمه وعن حليبها الطبيعي.
لا بديل لبيروت سوى بيروت. كما لا بديل لامرأة نحبها سوى هي. إنني لا أتعاطى البدائل في المدن والنساء، ولا أومن باستعمال مدينتي المفضلة، أو حبيبتي المفضلة كدولاب احتياط"(66).
لماذا، إذن، بيروت دون سواها من المدن؟..
إنه كلما تحدث عن بيروت ذكر الحرية فهي عنده حادثة حرية لا تتكرر كل مليون سنة مرة. إنها كقصص الحب الكبيرة لا تعيد نفسها. حتى صارت كل المدن في العالم تأخذ صفراً في امتحان الحرية إذا قيست ببيروت.
ويؤكد أن المدن نساء، أو هن: "كالنساء كل واحدة لها شخصيتها، ورائحتها، ومذاقها"(67). وأن طبائع المدن وطبائع النساء تتشابه كثيراً. فثمة مدن مكشوفة تعطيك نفسها منذ اللحظة الأولى. وثمة مدن غامضة لا تكشف أسرارها لعشاقها إلا بالتقسيط(68). ومن ثم تأخذ المدينة قيمتها، ـ شأنها شأن المرأة تماماً ـ انطلاقاً من كمية المادة الشعرية التي تقدمها للشاعر: "وأنا أقيم المدن بكمية المادة الشعرية التي تقدمها لي"(69). ويؤكد أن المدينة التي تحرضه على كتابة الشعر يعود إليها دائماً ويسأل عنها وتسأل عنه(70). وأن بيروت تبلله بأمطار الشعر وأعطته زوادة من التجارب الشعرية يأكل منها كلما داهمه الجوع والعطش ومن ثم فهو لا يقارن بيروت بأي مدينة أخرى فهي في كفه، وكل نساء العالم في الكفة الثانية(71).
ويؤكد في موضع آخر أن بيروت علمته القراءة والكتابة. وبعدها دخل مرحلة الأمية. وهي شهادته النهائية في هذه المدينة العظيمة(71)، ليخلص إلى تأكيد هاجسية هذه المدينة المرأة بخيال طفل لا بخيال راشد: "بيروت تلاحقني في صحوي وفي نومي. ودمها يغطي ثيابي وأوراقي وشراشف سريري. وكل يوم أطلب رقم بيتي في بيروت أعرف أنه لن يجاوبني أحد.(.). قد تكون هذه التصرفات صبيانية. ولا تليق برجل محترم مثلي. ولكنني أعترف لكم أنني مجنون بعشق بيروت".(73).
لقد خص الشاعر بيروت بديوان كامل تحت عنوان: "إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار" وفيه القصائد التالية:
1 ـ يا ست الدنيا يا بيروت.
2 ـ سبع رسائل ضائعة في بريد بيروت.
3 ـ بيروت محظيتكم بيروت حبيبتي.
4 ـ إلى بيروت الأنثى... مع الاعتذار.
5 ـ بيروت تحترق.. وأحبك.
فما هي صورة بيروت التي نستشفها من خلال هذه القصائد؟
يرسم الشاعر بيروت في قصيدة : "يا ست الدنيا يا بيروت" بمجموعة من الصور تدخل كلها في مايمكن أن نسميه الـ: قبل: (الماضي)، فهي ست الدنيا ذات الأساور المشغولة بالياقوت، والخاتم السحري، والضفائر الذهبية والعينين الخضراوين  اللتين ينام فيهما الفرح، والشفتين الرائعتين. وهي سنبلة ومروحة الصيف ووردته الجورية، ولؤلؤة الشاعر، وأقلامه وأحلام أوراقه الشعرية، وخلاصات الأعمار والعصفور الدوري، وحقل اللؤلؤ، وميناء عشق، وطاووس ماء، وعشتار ونواره، وسلطانة والقنديل الذي يشتعل في القلب. وزنبقة البلدان وجوهرة الليل. وهي مكان الوعد الأول والحب الأول، ومكان كتابة الشعر، ومخبأ الشعر بأكياس المخمل.
وعلى الرغم من هذه الصفات التي تبدو عادية إلا أن بيروت عنده ليس قبلها ولا بعدها ولا مثلها شيء. لكن تحولاً ما حدث، فصارت قاسية وقطة وحشية، وعيناها تأويان خلاصة حزن البشرية، ونهداها محترقان. وهنا تغيب الصورة الأولى لتحل محلها صورة تدل على التدني والسقوط والقتامة. فكان لابد من دعوتها للقيام:
قومي كقصيدة ورد
قومي من تحت الأمواج
قومي كقصيدة نار
قومي من تحت الرد
قومي من حزنك (74)..
فلماذا الرغبة في القيام؟:
من أجل الحب والشعراء
من أجل الخبز والفقراء
إكراماً للغابات، للوديان للإنسان
كي نبقى نحن، ويبقى العالم، ويبقى الحب(75)
ويظهر الراغبون في قيامها:
الشعراء، الرب، الحب(76)....

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire